ظهرت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر في مباراة بين فريقها الوطني الألماني واليابان، في 23 نوفمبر 2022 وهي في المدرج ترتدي شعار المثلية الجنسية، والذي كانت أخفته تحت معطفها، كذلك ظهر الفريق الألماني بصورة افتتاحية للاعبيه وهم يغطون أفواههم كناية عن القمع لهم بسبب إصدار الدولة القطرية لقوانين تمنع نشاط حملة المثلية الجنسية وارتداء رموزها، أثناء عقد الدورة الحالية للمونديال في قطر.
عد تيار انتقد ما قامت به وزيرة الداخلية الألمانية وفريقها الوطني، بأن ألمانيا تبعث رسالة بعدم احترام عقائد وأديان الآخرين ولا حتى قوانين البلد الذي يستضيفهم، إذا لم تكن تتطابق مع نسقها، وعدته ضرباً من العنصرية والاستعلاء الثقافي والنظرة الوصائية الاستعمارية في أوجها.
في حين استمرت الحملة الإعلامية في دول غربية تدعم في قوانينها المثلية الجنسية لمناهضة لما سنته قطر من قوانين في هذا الجانب، لكن أحداً منها لم ينتبه إلى أصول التعاملات السياسية في مثل هذه الحالة بين الدول، فألمانيا العلمانية اعتبرت المثلية جزءا من هوية الدولة وعقيدة ربما أقوى من الدين بردة فعلها على قوانين روتينية في دولة ذات هوية إسلامية، كان بإمكان ألمانيا عند تلقي قوانين المونديال إعلان مقاطعته، أما الحضور الرسمي وتصرف وزيرة الداخلية الألمانية بتشبيح على القوانين القطرية فهو مجرد مراهقة سياسية وعدم تبين للهوية التي تمثل بها دولتها في دولة ذات سيادة وقوانين مستقلة، وإن لم يكن الأمر كذلك، فما رأي وزيرة الداخلية الألمانية بقوانين يهودية الدولة في إسرائيل دولة الاحتلال ونظام الفصل العنصري، والتي تربط حق المواطنة بالدين اليهودي الذي في تعاليمه ينبذ أيضاً المثلية الجنسية؟
التصرف بنرجسية وصائية حقوقية وديمقراطية هي سمة الدول التي دمرت أجزاء واسعة من العالم العربي، في حروبها المبطنة تحت هذه المسميات الإنسانية في حين استخدمتها لفرض سيطرتها على ثروات ومصائر تلك الدول .
إذا كانت الغرائز ستصبح شعارات للدول وستقوم كل دولة بتبني شعار توجهاتها في هذا الجانب سنرى بجانب شعار المثلية دول بشعار صحن سلطة أخضر، ودول بشعار خرفان مشوية، لأنه أن تصطحب معك توجهك الجنسي في كل فعالية، كمن يخبر الناس ماذا أفطر وماذا تغدى وتعشى والناس لديهم ما يكفيهم وما ينشغلون به أكثر من كيف يشبع شخص غرائزه، بالذات أن ما حصل يندرج في خانة عقلية الضحية والمبالغة، وانتقل من حالة تبني المثلية الجنسية في قوانين البلد لحالة من عدها عقيدة من دونها تبطل شرعية قوانين أي بلد، وأي إنجاز يصدر عنها في المجتمع العالمي، وأيضاً التبشير العلني بهذه العقيدة في دولة ذات توجه واضح بهذا الشأن، وهذا ينم عن احتقار للمكونات الثقافية والدينية لباقي الشعوب.
التصرف بنرجسية وصائية حقوقية وديمقراطية هي سمة الدول التي دمرت أجزاء واسعة من العالم العربي، في حروبها المبطنة تحت هذه المسميات الإنسانية
استخدام الخطاب الحقوقي لنشر القيم الحقوقية يصبح محل ثقة في حال صدر عن فقراء الغرب، الذين تشبه همومهم الحياتية لحد ما هموم فقراء العالم، أما النخب السياسية والاقتصادية والدينية التي توظف الخطاب الحقوقي الذي أسس له الفقراء في الغرب ورضخت هي له مرغمة، واستغلته أحيانا كثيرة داخلياً وتجرب في كل مناسبة توظيفه سياسياً في الخارج، فلا ثقة بما تقوم به وترمز إليه لتورية أهدافها السياسية.
تبدأ مسألة عدم تعميق الشرخ بين الشرق والغرب باحترام سيادة الدول وقوانينها الداخلية، وعدم محاولة تغيير تلك القوانين جذرياً حين يحل سياسي غربي ضيفاً على بلد آخر وبالعكس، فرض الوصاية على العالم في مجال حقوق الإنسان لاستخدامه كقوة ناعمة لمصادرة سيادة دول، والتعدي على قوانينها، كان عنواناً لتدخلات الدول الغربية بكثير من دول العالم، كون قوة اللاعنف وقوة هذه القضايا أصبحت ورقة رابحة لتحقيق مطامح الدول سياسيا وإبقاء أياديها نظيفة من أن تدرج تحت عناوين عدوان أكبر، بالذات حين تلعب أدواراً مزدوجة.
ألمانيا التي قومت الدنيا على قضية فرعية، ليتها تنظر إلى حصار غزة وحرمانها من كل الحقوق الإنسانية، أو ليتها تتوقف عن تبني العقيدة الصهيونية، ومحاولة جعل مناصرتها جزءا من عقيدة الدولة، بتقنين هذا الدعم الاستعماري عبر اعتبار أي انتقاد لدولة الاحتلال مندرجا تحت معاداة السامية، أن تبدي ألمانيا احترامها لأهم الحقوق الإنسانية وهو حق الحياة سابق على باقي الإدعاءات الحقوقية.
ما قامت بهِ وزيرة الداخلية الألمانية في قطر هو تعدٍ سافر لا علاقة له بالتضامن مع قضايا المثلية، بمقدار ما هو استعراض قوة، ومحاولة إبراز فاشلة لتفوق الدولة الألمانية في قضية فرعية، وربما كان حرياً بهذه الدول أن تبرز هنا المجال الحضاري الذي فتحته قطر للتضامن مع حق الحياة، وإيضاح رعاية الدولة لحق الحياة عبر ظهور مفتاح الغانم، لكنه على العكس من ذلك أمرٌ أيضا استفز فلاسفة القتل الرحيم وقوانين الإجهاض، بالذات أنه أظهر استسهال دول سن القوانين التي تخفف الأعباء المادية على الدولة مثل قوانين الإجهاض والقتل الرحيم، ونحن لم نبتعد كثيراً عن أزمة كورونا حين كانت الأولوية في الرعاية للشباب لا لكبار السن في كثير من الدول التي تدعي حقوق الإنسان.
وحريٌ بالقول أن هنالك قضايا حقوق وحرّيات تستأهل التوقف عندها ولفت أنظار العالم لها كمناصرة ثورة نساء إيران، وقضايا المعتقلين السياسيين في مصر، وحق الحياة الذي لا تراه الدول المناصرة لدولة الاحتلال والذي هو سابق على أي من الحقوق الإنسانية، فكانت بذلك وزيرة الداخلية الألمانية كماري انطوانيت تدعو الناس لأكل البسكويت لأنهم لا يستطيعون شراء الخبز، ولو قيل لها علاء عبد الفتاح معتقل سياسي لدى النظام المصري ومعه الآلاف، أو أن شيرين أبو عاقلة تم اغتيالها برصاص جيش الاحتلال لردت هل لديهم حق المثلية الجنسية!
إن كان هنالك من معركة يجب أن تختارها وزيرة الداخلية الألمانية فهي ليست ساحاتها قطر وإنما أن تركز على ترميم المجتمع الألماني الغارق في المشكلات الاقتصادية منذ بدء حرب أوكرانيا. استفزاز مشاعر الشعوب والتشبيح على الحكومات في قضية فرعية لا يبعث على الفخر، وإنما هو عملية تشتيت للرأي العام عن المشكلات الداخلية والقضايا الملحة، وربما تعلمت وزيرة الداخلية الألمانية من نظيرها المصري كيف يتم توظيف قضايا تؤجج مشاعر الرأي العام لصرف الأنظار عن المشكلات الداخلية الحقيقية.